ميزة جدول التنقل

جدول التنقل

ثلاثة أيام في السجن... الحلقة (1) م. عيسى الجعبري

كانت الساعة بُعَيد الواحدة بعد منتصف ليلة الاثنين 15/ 5/ 2017 عندما استيقظت من نومي على رنين هاتفي، وأسرعت لأستقبل المكالمة التي كانت من شقيقتي وأخبرتني فيها بأن (الجيش) متواجد في الساحة أمام منزلنا، واستيقَظَتْ على صوت تلك المكالمة زوجتي، ثم ابنتي بتول، فأخبرتهما الخبر، وسارعتا لارتداء ملابس الصلاة، في طقوس يحفظها أهل البيت جيِّدًا بحكم الخبرة الأليمة المتكررة مع زوار منتصف الليل هؤلاء.


ذهبت إلى غرفة الصالون حيث النافذة المطلة على الساحة الأمامية لمنزلي فرأيت الجنود والسيارات العسكرية التي أقلّتهم، ولكنهم كانوا متوجهين لمنزل ابن عم لي حيث بدأوا يطرقون باب منزله بشدّة وعنف، حينها كانت التساؤلات تدور في رأسي: هل هم آتون إليّ كالعادة أم أن المقصود بهذه الزيارة المزعجة هو ابن عمي لتبليغه طلب مقابلة كما يفعلون كثيرًا مع فئة الشباب خلال الفترات الأخير، وبقي التساؤل حاضرًا والوقت يمضي بعد دخولهم منزله، وقضائهم وقتًا فيه، لربما استمر ربع الساعة، ثم رأيتهم يقبلون نحو منزلي وقد أحضروا ابن عمي معهم ليدلهم على المنزل.
سارعت بفتح الباب ونزلت عدة درجات نحو الطابق الأرض الذي تسكنه والدتي فقابلوني في منتصف الطريق، وبصياحهم المعهود سألوا عن اسمي فأخبرتهم، فطلبوا بطاقة هويتي، فناديت على زوجتي لإحضارها، وأعطيتهم البطاقة، وعندما تأكدوا من شخصيتي طلبوا من العودة إلى منزلي وهم معي للتفتيش.
كان عدد الذين دخلوا المنزل نحو (10) أشخاص، وكان فيهم مجندتان أو ثلاثة، وشرطي، يمكن تمييزه بسهولة، لأن لباس شرطة الاحتلال مخالف للباس الجيش، وطلب ضابط القوة منا الاجتماع في غرفة الصالون، أنا وزوجتي وابنتي بتول، وكانت ابنتاي التوأمان الصغيرتان اللتان لمّا تبلغا سنّ الثامنة بعدُ – شهد ومريم – لا زالتا نائمتين، فطلبت زوجتي من الضابط إبقاءهما نائمتين في غرفتهما، فوافق في البداية، ثم بعد قليل تراجع وطلب إيقاظهما وإحضارهما عندنا لأنه يريد تفتيش كل المنزل، فذهبت والدتهما لإيقاظهما، وكان معها بعض الجنود، فاستيقظت الصغيرتان وفتحتا عينيهما لتجدا جنود الاحتلال مدججين بسلاحهم حول سريرهما، ولك أن تتخيل الأثر الذي يتركه ذلك على طفلتين صغيرتين، تدركان أن أباهما – دومًا – معرَّضٌ ليغيب عنهما وراء القضبان، فرغم صِغر سنّهما إلا أن لهما في هذه المسألة تجربة مريرة، إذ ولدتا وأنا في السجن، ولم أرهما إلا عندما خرجت وكان عمرهما (9) أشهر ، واعتقلت بعدولادتهما (3) مرات قضيت فيها (45) شهرًا بعيدًا عنهما، فصار مجموع ما عشته في السجن بعيدًا عنهما (54) شهرًا، وعشت معهما من عمرهما (41) شهرًا فقط، ولكنها المرة الأولى التي أعتقل فيها وهما مستيقظتان تشهدان استلابي من بين أيديهما.
جاءت الصغيرتان وعانقتاني وهما تبكيان، وجلستا في حضني، فصرت ألاعبهما وأقول لهما أنهما يجب أن تبقيا قويتين، وأنهما ستأتيان لزيارتي في السجن كما في المرات الماضية، وبقيتا ملتصقتان بي طالما أمكنهما ذلك، فهما متعلقتان بي بشكل كبير، وكان مشهد الجنود المدججين بأسلحتهم التي يصوبونها نحونا مستفزًّا للصغيرتين اللتين كانتا تبكيان بهدوء، وتمطراني بقبلاتهما بين الحين والآخر.
طلب الضابط من زوجتي أن تجمع له كل النقود التي في المنزل لأنه يريد تفتيشه، ورافقتها إحدى المجندات أثناء ذلك، وبعد إحضار النقود الموجودة، وكان المبلغ نحو (6,000) شيكل، ثم بدأت عملية التفتيش التخريبية والتي لزم زوجتي بعدها العمل لثلاثة أيام لإعادة ترتيب المنزل.
أثناء ذلك طلب مني الضابط الحضور من الصالون، وكان يجلس على طاولة غرفة الطعام هو والشرطي وإحدى المجندات، وكانت هي التي تحمل الأوراق، وتصور المنزل، وكانت تتحدث باللغة العربية، وكانوا يعدون النقود، ويسجلون تفاصيلها في ورقة معهم، وطلبوا مني التوقيع على صحة المبلغ الذي قالوا أن هناك قرارًا بمصادرته.
بعدها بقليل، وكان ضابط الوحدة يخرج إلى (البلكونة) ويهاتف ضابط مخابرات المنطقة أخبروني أنهم يريدون تفتيش سيارتي، وكانوا قد أحضروا مفتاحها من مكانه، فأخذوني معهم لتفتيشها، وأثناء نزولنا كانت والدتي – حفظها الله – تجلس قرب باب منزلها وهو مفتوح تراقب ماذا يفعلون معي، فطلبوا منها الدخول وإغلاق الباب، وعندما وصلنا إلى السيارة وقلت لهم هذه هي، استغربت (المجندة) ونظرت في الورقة التي معها، وقالت أن السيارة يجب أن تكون سيارة (ستيشن)، وليست سيارة عادية، فقلت لها: هذا الموجود عندي، ولو نظرت حولك، وكان في الساحة أمام منزلي نحو (10) سيارات لإخوتي وأعمامي وأبنائهم، فليس فيها أي سيارة (ستيشن).
كنت أدرك مكمن الخلل عندهم، فقد كانت عندي سيارة (ستيشن) قبل نحو (6) سنوات، عندما طُلِبتُ لمقابلة ضابط مخابرات المنطقة وسجل خلال المقابلة نوعية سيارتي، ويبدو أن معلوماتهم لم يتم تحديثها، فلم يُسَجَّل عندهم أني بعت تلك السيارة وتملكت غيرها، وهذا يدل على أن الوهم الذي يشيعونه عن معرفتهم كل شيء يتعلق بنا فيه مبالغة كبيرة.
بعد تفتيش السيارة عدنا إلى المنزل، وكان بقية الجنود ما زالوا يفتشون فيه ويعيثون فسادًا، وجلست في الصالون مع الصغيرتين وبقية العائلة، وكان الجنود ما زالوا يحرسوننا مصوبين الأسلحة نحونا، ثم استدعاني الضابط، وأخبرني أنهم لن يصادروا النقود، بل سيصادرون السيارة، ثم بعدها بقليل خرج وكان يتكلم عبر هاتفه ثم أتاني وأعطاني الهاتف وقال لي: ضابط المخابرات يريد الحديث معك.
كان على الطرف الثاني من الخط من عرَّف عن نفسه بأنه (الكابتن أمين) الذي سألني عن حالي، وعن معاملة الجنود لنا، ثم أخبرني بأنه يأسف لإبلاغي بأني الآن معتقل، وأن سيارتي ستتم مصادرتها، فطلبت منه أن يتكلم مع ضابط الوحدة ليسمح لي بحمل ملابسي وأدويتي معي، فلم يمانع وتحدث معه في ذلك.
طلبت من زوجتي تحضير ملابس لي آخذها معي إلى السجن، فذهبت لتحضير الملابس، والمجندة برفقتها طبعًا، وزوجتي تعرف عمومًا ما يلزمني، بحكم الخبرة السابقة في (9) اعتقالات ماضية، وجهزت أنا ما أحتاجه من أدويتي وحملت مصحفي معي، ثم ودّعت زوجتي وابنتي بتول والصغيرتان شهد ومريم، اللتان كانتا تبكيان وتتمسكان بي، فطلبت منهما مرة أخرى أن تكونا قويتين كما عهدتهما، ثم استودعتهم الله الذي لا تضيع ودائعه وغادرت منزلي والجنود يحيطون بي من أمامي وخلفي، وخلال نزولي قلت للضابط أني سأودع والدتي، فحاول الجنود منعي، غي أني أصررت على ذلك فسمحوا لي به، ففتحت باب منزلها وقبّلت يديها، وشيعتني بدعواتها ورضاها.
لم تكن سياراتهم تقف بعيدًا عن المنزل، وعندما وصلنا سيارتي أوقفوني ووضعوا القيود البلاستيكية في يدي، ووضعوا عصبة القماش على عينيَّ، ثم طلبوا مني الركوب في سيارتي في الكرسي الخلفي، وكان معي فيها جنديان، أحدهما كان يسوقها، وبعدما تحركنا بقليل، وكنت استرق النظر من تحت العصابة التي على عينيّ لمحت أن الجندي الذي يسوق سيارتي قد التقط صورة (سيلفي) لنفسه وزميله، وكنت في الكرسي خلفهما مقيَّدًا معصوب العينين!
سارت قافلتنا، وكانت الساعة قد أصبحت الثالثة والنصف، فقد مكثوا نحو ساعتين في تفتيش منزلي، وسارت بنا نحو مستوطنة (خارصينا) عبر الطريق الالتفافي، وهناك وضعوني في ساحة كشوفة والجنود حولي، فسمعت الأذان لصلاة الفجر فقمت وأديت الصلاة، ولا أدري أصليتها نحو القبلة أم لا، ولكن كان هذا ما في استطاعتي، ولا يكلف الله نفسًا إلى وسعها.
بعدها وضعوني في غرفة قريبة على كرسي ووجهي للحائط، وبقيت فيها نحو ساعتين في تقديري، حتى حضر من سيجري لي الفحص الطبي الروتيني الذي يتم إجراؤه للمعتقل أول الاعتقال.
قاس الطبيب – هكذا أظنه – نبضي وضغط الدم عندي، والذي كان مرتفعًا، ثم سألني عن الأدوية التي أتناولها، وكنت قد حملتها معي، فأنا أتناول نوعي دواء لمرض السكري، ودواءً لضغط الدم، وآخر للكوليسترول، ودواءً للنقرس، ومميعًا للدم، وأدوية لمعالجة نقص الفيتامينات، فسجل كل ذلك عنده، ثم سألني الأسئلة المعتادة عن الأمراض التي أعاني منها، وعن تاريخي الطبي.
وبعد انتهاء هذا الفحص، أعيدت القيود ليديَّ والعصبة لعينيَّ، وحملوني في سيارة نقل جنود كبيرة، كنت فيها لوحدي، ومعي جنديان يحرساني، وكانت مجندة تقود تلك الشاحنة التي توجهت بنا نحو معسكر (عصيون).

إرسال تعليق

0 تعليقات