ميزة جدول التنقل

جدول التنقل

بمعاني الكلمات والاعراب :: شرح قصيده أنين الصواري

الغوص وانساقه التراثية في القصيدة الخليجية المعاصرة (أنين الصواري*) للشاعر علي عبدالله خليفة

لم تعد القصيدة العربية المعاصرة مقتصرة على طابعها الغنائي المعروف بل راحت تجرب تقنيات معاصرة, ومنها هذه النزعة

الدرامية أو القصصية التي شكلت اتجاها بارزا في القصيدة العربية. وكثيراً ما يعزوا النقاد والدارسون هذه الظاهرة إلى التداخل بين الأجناس الأدبية المعاصرة بحيث يصعب أن تجد حدوداً حاسمة بين جنس أدبي وآخر.

وليس من الضروري أن تتضمن القصيدة قصة كاملة مستوفاة بشروط الفن القصصي وعناصره الفنية في الشخصيات والحوار والسرد والأحداث ومهادها المكاني وفضائها الزماني, بل إن حضور بعض هذه العناصر يضفي على القصيدة هذه السمة. وإذا كانت مثل هذه الظاهرة قد طرقها الدارسون والنقاد, فإنها أفرزت مسميات كثيرة لم ترق إلى مستوى المصطلح النقدي المستقر ولكنها على وجه العموم دانية الدلالة. ومنها مسمى (القصيدة القصصية) الذي تبناه الدكتور عز الدين إسماعيل (1) والقصة الشعرية التي أوردها الدكتور جلال الخياط(2) ولا نعدم مسميات أخرى من نوع القصيدة الدرامية أو القصيدة الحوارية وربما القصيدة السردية في كتابات لاحقة اهتمت بعنصر السرد بدرجة أساس. والمبدأ المهم في مثل هذه الظاهرة هو الإفادة من مثل هذا التماهي بين الفن الشعري من جانب, ومن الجانب الأخر الفن القصصي والفن المسرحي, وهو تماه له إنعكاسه على جماليات القصيدة المعاصرة إذا ما استثمر على وجهه الفني, بيد أنه قد يبدو عبئا ثقيلا على القصيدة إذا ما تناشز نسيجه مع نسيج القصيدة الحي. <<ولعل أهم الصدمات التي وجهتها القصيدة الحديثة لمنظور القارئ وأفق تقبله أو توقعه, هو إرسال النثر بلغته وصوره وتعيناته المكانية والزمانية والشخصية, ضمن القصيدة المبنية في خبرته وتوقعه على أساس من اشتراطات الشعر ومزاياه الخالصة. فالسرد يحرر القصيدة ليس من هيمنة الرؤية الغنائية حسب, بل من هيمنة الشعر الخالص بتجريديته وفضائيته>> (3).

ولأن البناء القصصي يبدو ألصق بعنصر المكان وحيثياته قياسا بطبيعة القصيدة الغنائية عامة لذلك فإن المهاد الشعبي المستقى من تراث البيئة المحلية يجد له منفذا إلى القصيدة القصصية وهو يظهر على أكثر من هيئة, إذ قد يظهر عبر ملامح الشخصية القصصية أو من خلال حوارها وربما تمحور حول سمات البيئة المحلية التي يتشكل منها عنصر المكان.

وتجد الدراسة بغيتها في قصيدة (صدى الأشواق) للشاعر البحريني علي عبدالله خليفة - التي تضمنتها مجموعته الشعرية (أنين الصواري) - إذ نسجت على هيئة قصيدة قصصية أو قصة شعرية تنطوي على عناصر القصة وطبيعتها وحدودها. والقصة المتضمنة تمتزج بمعطيات التراث الشعبي و ثيماته وخطوطه مما يصعب معه فصل عناصر القصة عن عناصر المأثور الشعبي. فضلا عن إن هذه الدراسة تسعى إلى قراءة القصيدة على وفق قراءة بلاغية تتخذ من الصورة البيانية بأنماطها الثلاثة: (الصورة التشبيهية, والصورة الاستعارية, والصورة الكنائية)(4) أداة للنفاذ إلى عناصر القصة المضمخة بالطابع الشعبي وعلى الوجه الذي يكشف عنه الجانب التطبيقي.

يصعب أن نفصل بين ملامح الشخصية الرئيسية في هذه القصة الشعرية وبين حوارها الذي ارتكزت إليه القصيدة. وهو حوار يندمج فيـه النمط الخـارجـي (Dialogue)(5) مـع الآخــر الذاتـي (Monologue)(6) ومنذ استهلال القصيدة يتناهي إلى أسماعنا صوت بطلة القصة وهي تقول:

زغردي يا خالتي يا أم جاسم/ زغردي قد عاد طراق المواسم/ جهزي الحناء, هاتي الياسمين

هاك ماء الورد والعود الثمين/ عطري (البشت) واعطيني الخواتم/طافت البشرى بأهل الحي قومي/ واتركي عنك تعلات الهموم/ قد سمعت الكل في الأسياف يحكي/ عن شراع في المدى اجتاز اختبارات المحك/ لا يبالي الموج أو لفح السموم/ ساعديني, رتبي عني المساند/ انثري المشموم والأشواق في كل الجوانب/ وأصيخي السمع (للهولو)/ على الشطآن عائد

يكشف احتشاد ملفوظات الانتظار عن ملامح الأنثى الشعبية التي تفلح في أن تحفز متخيل القارئ باتجاه استحضار صورة بينلوب, بيد ان هذا المقتطف الشعري يخطف تلك الصورة بعيدا عن لوعة الإنتظار باتجاه فضاءات منتشية بعودة البحار الغائب (جاسم) مستثمرا فاعلية المفردة الشعبية في تخليق عتبة دلالية مشتركة بين أفق القارئ وافق النص << إذ يتم تسرب خصائص الذاكرة الشعبية إلى نسيج اللغة الشعرية وفضائها الداخلي, من خلال بنيتها التركيبية. فالمفردة الشعبية على هذا الصعيد تتميز باستخدام خاص له طابع محلي يصدر عادة عن ينابيع اللهجة الدارجة في إطار معناه الذي استمد خصوصيته من خصوصية البيئة الاجتماعية وما يتصل بها من خصائص التميز والتفرد>>(7). وينفتح النص منذ (زغردي يا خالتي يا أم جاسم) على بنية كنائية تتوق إلى مشاكسة توقعات القارئ. فهذا السطر الشعري - كما نفترض - يمكن أن يكون مدخلا إلى قصيدة شعبية وان ارتكز إلى مفردات فصيحة, لكن النص يوظف هذه البنية الكنائية في تكثيف الأجواء المحلية واستدعائها. وتتوالى العبارات التي تجلي المرجعية الشعبية ومنها (عاد طراق المواسم) وهي تحيل إلى موسم (القفال) المتخم بالترقب والإحساسات المتضاربة, وهو يشكل هنا بؤرة مهمة من بؤر الحدث الرئيس إذ تنسج القصيدة موسيقيا على منوال القفال وتفضي إلى البنية الغائبة المضاءة بشموع التراث. وفي صيغ الأمر (زغردي, جهزي الحناء, هاتي الياسمين, هاك ماء الورد والعود الثمين, عطري [البشت], أعطيني الخواتم, انثري المشموم, واصيخي السمع [ للهولو( ] صور كنائية معبرة عن هذا الصدى القوي للاشواق (عنوان القصيدة) وهو ابتهاج خاص اذ تجليه الرموز الشعبية الموروثة التي لا يتم الفرح إلا بحضورها لاسيما انها تشتغل على اكثر من حاسة. ففي الوقت الذي تشي فيه الحناء بعطاء حاسة البصر فان الياسمين وماء الورد والعود الثمين تحيل إلى حاسة الشم بدرجة أساس وحاسة البصر بدرجة اقل. وعبر حركة دائبة طرفاها بطلة القصة والشخصية الثانوية (أم جاسم). وتأتي (البشرى) - في إطار استعارة ذهنية وبقرينة الفعل المستعار (طافت) - كي تملأ الأثير وتغمر الكون إستجابة لمشاعر البطلة المفعمة بالسعادة والحبور. وهي تدعو خالتها ووالدة زوجها (جاسم) - بطل القصة الذي لم تظهر القصيدة ملامحه بعد - إلى أن تذر الهموم في سياق استعارة ذهنية أخرى تفصح عن إنتهاء عهد الانتظار المر وبدء موسم الفرح الموصول بأوان عودة البحارة القافلين إلى ديارهم والمحملين بالخير والهدايا.

ويتكرس الجو الشعبي عبر مزيد من الصور البيانية فـ(في الأسياف) وفي الشراع الذي (يجتاز اختبارات المحك) و (لفح السموم) توكيد لطبيعة الغوص ذي الجذور العريقة في بيئة الخليج التي عاشت أجيالا طويلة تستمد من البحر نسغ حياتها وتجلي الاستعارة التشخيصية المكنونة في الشراع (الجريء) الذي (لا يبالي) بالصعاب المرموز لها بـ(الموج ولفح السموم) الموقف الجديد الداعي إلى كل هذا الإحتفاء بالقفال من لدن البطلة التي لم يجد النص ضرورة لأن يمنحها اسما ما فهي رمز أكثر منها امرأة معينة, إنها صورة لعشرات النساء ممن ينتظرن العائد المعبأ بالعناء والمكابدة.

وتتواصل الصور البيانية المضمخة بعبير التراث الشعبي عبر الإنزياح الاستعاري المتمظهر في (انثري المشموم والأشواق في كل الجوانب) ويفضح الفعل المستعار (انثري) هذا التعاشق بين تأثير حاسة الشم مع الهالة المعنوية المتخلقة من اللفظ المستعار (الأشواق). وينتقل وعي البطلة بتلقائية إلى التعبير عن حاجاتها لما يشغل حاسة السمع التي بدأت باستدعائها عبر إنثيالات الغبطة الموقعة المتأتية من تكرار (زغردي, زغردي) ولم يشف غليل اشواقها إلا بسماع لحن (الهولو), وهو لحن الغوص الذي يفلح استحضاره في أن يمنح اللوحة طابعها الشعبي.

وحين تعود البطلة إلى (أناها) عبر الحوار الذاتي فإن الصورة البيانية تتولى مهمة استكناه هذه الأعماق الزاخرة بمرارة الانتظار إذ يرد :

أشهر الغوص تمطت فتبدت/ في حساب العمر قرنا وهو غائب/ يا لفرحي ساعة اللقيا دنت !!/ كم جميل كل ما حولي, حبيب/ كل من حولي, وقلبي/ طفلة مزهوة الأفراح في ليل الموالد/ هل ترى كل نساء الحي مثلي ?/ في اندفاعي ?/ عندهن اللهفة الهوجاء في حر التياعي?/ وإشتياقي لو تعرى

بان مجنون الرغائب ?/ مالذي البس يا مرآتي الرعناء.. قولي/ (نشلي) المزدان بالنجمات والكم الطويل ?/ أم ترى ذلك أنسب?/ (نشلي) الوردي المقصب ?/ إنه يظهر والتطريز طولي.

إن فرحة البطلة لما تزل في فضاء الانتظار ولن تتم ما لم تكتحل عيناها برؤية حبيبها, لأن التجربة الشعبية مع البحر مريرة فهو مانح معطاء بلا حدود ولكنه في الوقت نفسه غادر يباغت الناس حين يبتلع أعز الأحبة لذلك فإن غبطة البطلة ظاهرية حسب, وما أن تجد نفسها وحيدة حتى تفزعها ذكرى أشهر الانتظار التي منحها الانزياح الاستعاري إهابا بشعا فغدت وحوشا ضارية (تتمطى) بكلكلها لتجثم على زمنها الغض, وتفلح الصورة التشبيهية المرسلة في أن تداخل بين شهور الغوص والزمن الممتد إلى (قرون)-يستمد هذا الجمع لـ(قرن) من تعدد رحلات الغوص -لا يتاح للإنسان أن يعيشها على صعيد الزمن النوئي (الطبيعي), ولكن بطلة القصة عاشتها على صعيد الزمان النفسي, وما وجه الشبه إلا عتمة المعاناة وامتدادها البغيض. ويشفع هذا التشبيه بصورة تشبيهية أخرى تجلى (قلب) البطلة في إهاب (طفلة مزهوة الأفراح في ليل الموالد) (المشبه به المقيد) مما يعطي هذه الصورة حركية التشبيه التمثيلي وحيويته إذ يتباعد فيه وجه الشبه عن متناول الذهن فضلا عن انه يستجلب الملامح الشعبية المستقاة من (الموالد) التي تنزع عن الليل إزاره المعتم لتضاء آفاقه بفرح الناس وصخب الطفولة وحركتها في كل اتجاه.

ويفلح اسلوب الاستفهام في أن يعكس قلق البطلة وترقبها الممض, زد على ذلك أنه احتضن صورة تشبيهية استدعت شخصيات ثانوية (نساء الحي) (المشبه به) لكن النص - وبوعي جمالي - يخرق النسق التقليدي للهندسة التشبيهية المألوفة إذ تمنح أداة الاستفهام (هل) وجه الشبه (في اندفاعي) بعدا جديدا يفصل المشبه (أنا) البطلة عن الأنوات الأخرى (نساء الحي) على صعيد الشوق والشغف وربما يوحدهما تحت فضاء الانتظار لذلك تسترسل البطلة في حوارها الذاتي مرتكزة إلى بنية هذه الصورة التشبيهية إذ تعلن صراحة (هل ترى... عندهن اللهفة الهوجاء في حر التياعي ?!) ويتنامى الإحساس بفرادة العذاب والمكابدة حين يستحضر مخيال النص الإنزياح التشخيصي الذي يهب الاشتياق (المستعار له المعنوي) أبعادا بشرية بقرينة (تعرى, بان مجنون الرغائب).

وحينما تخفق البطلة في أن تجد من نساء الحي (الشخصيات الثانوية) مرآة عاكسة لمشاعرها, فإنها تلوذ بمرآتها الخاصة التي تتشخص فتاة (رعناء) لا تعي لهفة البطلة ولا تجاري اندفاعها صوب الإستجابة لهذا الحدث المهم (حدث عودة رجلها وحبيبها). وتفضح القرائن الاستعارية [ الاستفهام (ما),والنداء (يا), والفعل المستعار (قولي) ] حيرة البطلة التواقة إلى استكمال زينتها إحتفاء بهذه العودة.

وتحيل المرآة إلى حاسة البصر وهي تفضي إلى إضمامة من الصور الكنائية ذات الطابع البصري إذ تقترن بالزي الشعبي المعروف (النشل) الذي يتكرر مرتين (نشلي, نشلي) وفي كل مرة يوشي بما يبرز طابعه الشعبي المولع بالألوان البراقة المتلألئة عبر (النجمات, واللون الوردي المقصب, والتطريز) وهي جميعا مما يؤكد هذه الأجواء التي تؤطر صورة البطلة بملامحها الشعبية البهية وأسلوب فرحها والرموز التي تعبر من خلالها عن تلك الغبطة العارمة. ويرى الدكتور ماهر حسن فهمي أن وقوف البطلة أمام المرآة وحوارها معها يعكس <<أعماق المرأة وهي تعد كلمات الاستقبال والأسئلة الملهوفة>> (8).

ويأتي المقطع الآخر من القصيدة مستهلا بالنداء (ياحبيبي) فيومئ استرسال البطلة في حوارها الذاتي وإنه قد أشر انفصالا عن الشخصية الثانوية (أم جاسم), وإن مرحلة أخرى من القصة الشعرية قد بدأت مفصحة عن طبيعة شخصية جاسم إذ تقول :

يا حبيبي/ سوف ألقاك بتهليلي وأنغام الطبول/ سوف يلقاك إبتهالي/ وسؤالي/ كيف طوفت بأعماق البحار?/ كيف حال البحر في صمت الليالي?/ كيف أنتم في عيون الشمس/ في ذاك النهار?/ كيف كنتم واللآلي?

تتصاعد نغمية هذا المشهد الشعري باستدعاء ظاهرتين ايقاعيتين فثمة التجانس الصوتي بين (تهليلي, ابتهالي), وتستقي موسيقية التكرار من (سوف ألقاك, سوف يلقاك) الكاشفة عن إنثيالات صورة (الغائب / القادم) على الذاكرة, كما تتضح في إضمامة التساؤلات المزهوة المرتكزة إلى أداة الاستفهام (كيف, كيف, كيف, كيف). لقد تواشجت الفضاءات الصوتية بمدياتها المتفاوتة (ابتهالي- سؤالي- تهليلي - أنغام - الطبول) كي تخلق صورة سمعية تتراوح ما بين البوح وخرق صمت الانتظار بـ(التهليل) و(طرقات الطبول) المقترنة في الذاكرة الشعبية بالمواسم السعيدة.

ويوظف النص أسلوب الأمر الذي يخرج كما الاستفهام - من قبل - عن وظيفته اللغوية كي يكرس معنى الزهو والفخار بإنجازات هذا (البحار / الرمز) إذ تخاطبه البطلة قائلة :

خبر الدنيا وخبرني وارفع/ آهة (النهام) في الأجواءباللحن الموقع/ روع الحيتان في الأعماق يا ابن السندباد/ روع الظلم وانصاف الرجال/ في عناد/ قل لهم كيف يكون العيش في دنيا حقيرة/ يركب الكل المحال/ ينبرون الوحل في قلب الهلاك/ باصطبار في اعتلال/ يفلقون الصدف الموحل في عز الظهيرة/ حسبما شاءت أميرة/ في أقاصي الأرض.. في أغنى البلاد/ في قصور من ضلال/ تتشهى في دلال/ درة حبلى نضيرة

وتشع بؤرتان شعبيتان من خلال (آهة النهام) التي يمتزج فيها الحزن بالطرب. وشخصية (النهام) تحيل إلى ترانيم البحر التي لا يستغني عنها البحارة, فإيقاعاتها تخفف عنهم عبء الغربة ووطأة الجهد الثقيل والعذابات الجاثمة, وأما البؤرة الشعبية الأخرى فإنها تتمظهر في انتماء (جاسم) إلى شخصية السندباد بوصفة امتدادا له (أبنه). والسندباد مقيم في عمق الذاكرة الشعبية حيث يهب شخصية جاسم أبعادا تراثية تتراوح ما بين روح المغامرة وضرورة الكسب. ويشكل الفعل (قل) بؤرة دلالية تحرف البنية السردية باتجاه محور أخر جديد يجلي عودة البطلة إلى ذاتها ثانية, فإذا بهذه الاندفاعة السعيدة تتهافت أمام عتمة الراهن المعاش الذي تفضحه تقنية الاسترجاع الفني(9) (Flash - Back ) إذ تتوالى صور المكابدات المستمدة من طبيعة تجربة الغوص الصعبة التي لا يجني البحار ثمارها, وإنما له عذابها ولسواه من المترفين. وقد فضحت الصورة الكنائية (شاءت أميرة, في أقاصي الأرض, في أغنى البلاد,في قصور من ضلال, تتشهى في دلال) السخط إزاء هؤلاء المقتاتين على الجهد والمكابدة.

لقد استطاع هذا المشهد الشعري أن يعكس الطابع الواقعي لتجربة الغوص << من حيث الموقف والرؤية والمعالجة الفنية, وهو ما جعلها قادرة على كشف حقيقة تجربة الغوص المتمثلة في الوجه الآخر الذي لم تمط عنه اللثام قصائد الرومانسيين قبل الشاعر إن لم نقل إنها تسترت عليه, ولم تستطع الإحساس به, ويتركز ذلك الوجه الغائب في حبات العرق عوضا عن حبات اللؤلؤ التي ليس للغواص منها في الحقيقة أي نصيب... فليس في إمكانه أن يحضر لؤلؤة نقية أو دانة بيضاء إلى حبيبته المنتظرة التي لا تحلم سوى بعودته سالما >> (01)

وتتهافت الهوة المكانية بين البطلة والبطل فيتماهى صوتاهما في المقطع الثالث من القصيدة, وهو يبدأ بالنداء المؤلم لسنين الغوص إذ نسمع :

يا سنين الغوص, يا ظلم الرجال/ يا أتونا عشت كي تصلى سعيره/

ايها المحموم في ليل السهاد/ أيها المحروم يا ابن السندباد/ زلزل الدنيا وأسمعني, وصعد/ للسماء صرخة حق لا تحيد/ إذ متى أنصف يا ليل الجواري والعبيد/ ومتى أرفع راسي للصواري/ شامخا مثل شراعي في فضا كل البحار ?/ ومتى يعلو على (البتيل) في النور إزاري/ كالبنود ?/ هاهنا الإنسان في ذاتي بردد :

عاد حقي... عاد حقي/ ويزغرد

يتكرر النداء ثلاث مرات صريحا (يا, يا, يا) ومرتين أخريين بأسلوب ضمني (أيها, أيها), فيطبع النداء السطور الأربعة الأولى بطابعه مما يؤكد لهفة البطلة من جانب وأحساسها الدفين بالغبن وبأن حبيبها يحرم من ثمار جهده لذلك فإن عليه أن يسعى إلى تغير وضعه من أجل أن يوفر سعادة حقيقية وهي العطش إلى زمن الفرح المطلق الذي تحيل إليه الصورة الكنائية ذات الطابع الشعبي إذ يفصح عنها (البتيل [المركب الكبير ] ) وقد علا فوق شراعه الفخم إزار مزركش براق ايماء إلى تحقيق الأماني الصعبة والعودة السالمة الغانمة. لقد ظهرت البطلة هنا مكتنزة في أعماقها شديدة الوعي بظرفها وهو وعي موصول بيقظة بطل القصة الشعرية (جاسم) بيد أنه في الوقت ذاته وعي مراوغ, يسحق صاحبه إذ لا مجال لتحقيقه في ظل ظروف قاهرة وعرة. ولم تشأ القصيدة أن تضع الحلول الجاهزة أو تفرضها - ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك - ويكفي أنها عرضت مساحة الإحساسات المعنوية الشاسعة للبطل والبطلة كليهما.





وتمنح الألفاظ (زلزل, صرخة حق, سعيره) المشهد الشعري فضاءاتها المتقدة المرهصة بحركة مدمرة تطيح بسجف الانكسار, كما أفلح التجانس الصوتي في [ (أيها المحموم, ايها المحروم),(متى / متى)] و[(و يزغرد / يردد), (عاد حقي / عاد حقي)] في أن يفتق بؤرا إيقاعية متصادمة تجلي توق النص إلى فتح كوة مضيئة في عتمة الراهن المعاش. ويتلبث الدكتور علوي الهاشمي عند تداخل الضمائر في هذا المشهد الشعري فيقول: <<يصعب تحديد ضمير المتكلم : أهو الغواص? أم الشاعر? أم الإنسان الغواص باعتباره جنسا, أي روحا جماعية مضمرة? كما يصعب في الوقت نفسه تحديد ضمير المخاطب أو المتحدث إليه, مما يجعل استخدام الضمائر المتنوعة والمتداخلة, يبدو وكأنه ضرب من الارتباط الفني خاصة في إطار المرحلة المبكرة (التي يمثلها المقطع الشعري) من سياق حركة الشعر الجديد في تعاملها مع هذا الشكل من التركيب العاطفي >> (11).

وتستحيل (يا حبيبي) لأزمة نغمية تشد أواصر القصيدة وهي تؤكد تقنية هذه القصة الشعرية بورودها عبر وعي البطلة ومن خلال حوارها الذاتي وتيار وعيها المتصل الذي يتحرك في اتجاهات مختلفة ويراوح ما بين الماضي والحاضر وهاهو صوتها الذي تطلقه لفظة (سوف) من أسار لحظة الترقب باتجاه فضاءات اللقاء يراود لحظات النهار في رحاب أمكنة أليفة محببة مترعة بنسغ الحياة (عين الماء) وحركة الناس إذ يرد :

يا حبيبي/ سوف أحكي لك عن شوقي جهارا / عن جنون الصبية اللاهين في حقل توارى/ خلف كثبان الرمال/ وعن العين وضحكات الصبايا/ دونما أي أتزان/ عن نخيل أرطبت قبل الأوان/ عن حكايات الزمان/ عن (مراداة) العذارى/ عصر يوم العيد عن كل السهارى/ في أمان

ثمة فضاءان مكانيان يحتفيان بفرح عارم ينعكس على ملامح (الصبية والصبايا) بدلالة (جنون, اللاهين), (ضحكات دونما أي اتزان). أما المكان الأول فهو - حقل يتوارى خلف كثبان الرمال)وأما المكان الآخر فإنه عين تنعكس عليها صورة الصبايا الحسان, ثم تنتقل (كاميرا) النص بإتجاه أجواء أثيرة يمنحها (النخيل)هوية, ولان متخيل الكناية يصبو إلى تخليق صورة طريفة, لذا فإنه يستحضر (نخيل أرطبت قبل الأوان) إذ يجتاز بالنخلة - هذا الرمز التراثي المستقر في الذاكرة الشعبية(12) - العتبات الزمنية المألوفة إلى رحاب زمن جديد مثمر.

والشاعر في غمرة انشغاله بتلوين المشهد بإيحاءات بصرية (حقل, عين, كثبان رملية, نخيل) وسمعية(احكي لك, جهارا, ضحكات), وذوقية (ارطبت), فإنه لا ينسى المهاد الشعبي للوحته الشعرية لذلك يسارع إلى استدعاء (حكايات الزمان) و (رقصة (المراداة) و (عصر يوم العيد) كي يمنح بؤرة النص أبعادا مطلقة تتحرك بإتجاه الماضي لتحفز المرجعية التراثية على استكناه رؤى تلك (الانا) المنتظرة المتجذرة في أفق الجماعة الشعبية الخيرة. وبذلك فقد استطاعت الصورة الكنائية - التي انتظمت المقتطف الشعري - أن تؤصل للبيئة الشعبية وافراحها وحركة ناسها وصخبهم وسلوكهم ومواسمهم.

وتمتزج في المشهد الشعري الأخير الإحساسات المريرة - في ذات البطلة - بسواها, كما تتناغم عبرها أصوات الحزن مع أصوات البشرى التي يخفت صداها إذ ليس لها أي معنى إذا ما عاد المركب خاليا من كيان الحبيب الغائب. وهنا نضغي إلى صوتها وهي تقول :

يا حبيبي/ سوف أحكي لك عن ليل المحرق/ حين يخلو/ من جموع تنزوي في كل مفرق/ تقطع الوقت بأوهام وأحلام, وتطرق/ كل باب للدعابات واشجان الحديث/ سوف أحكي لك عن ليل المحرق/ حينما يخلو من الناي المؤرق/ في الليالي المقمرات/ يسكب اللحن العراقي الحزين/ طارقا كل الحواري والجهات/ ليبكي قلب عذراء سجين/ تزرع الآه واصداء الأنين/ في أعالي حصنها الداجي الحصين/ سوف أحكي لك عن ليل المحرق/ حين يغرق/ في متاهات الظلام/ وطيور الليل حيرى لا تنام/ ترصد الساحات قفرا من زحام/ من ضجيج/ يا أساطير الخليج/ لي فيك عبرة عند الختام/ عن جزاء الصبر للقلب المحرق

يشكل تكرار (سوف أحكي لك عن ليل المحرق) ثلاث مرات بؤرة نغمية تسجل انتقالة النص من فضاءات ناصعة رمز إليها بـ(عصر يوم العيد) إلى أجواء العتمة ورموزها وأن اقترنت بالمحرق مكانا رئيسيا. ولكن هذا المفصل النغمي ينفتح في كل مرة على أفق جديد, ففي المرة الأولى نرقب من خلال (حين يخلو من جموع تنزوي في كل مفرق... اشجان الحديث) حركة الناس- الذين يشكلون قوام الشخصيات الثانوية في هذه القصة الشعرية - وخطاهم المتثاقلة باتجاه دوامة الانتظار والشتات المكنى عن عبثيتها ب-(أوهام وأحلام) ويعود هذا المفصل الموسيقي كي يفضي إلى(حينما يخلو من الناي المؤرق في الليالي المقمرات... الداجي الحصين) فيكرس أجواء السكونية التي تقمع الأصوات الموقعة المرموز لها بـ(الناي, اللحن العراقي الحزين) وهي توقد في النفس إحساسات الإنكسار والاستسلام المكنى عنها بفعل البكاء (يبكي) و (الاه) و(اصداء الانين). وتوصل هذه البؤرة الموسيقية النص في المرة الثالثة إلى ذروته إذ تصرح البطلة علنا ببرمها بذلك الليل (حين يغرق في متاهات الظلام...) فثمة عتمة تطمس ملامح الأمكنة المتجذرة في الروح, وقد باح بهذا الإنغمار حد الاختناق الفعل المستعار (يغرق) الذي فرض حضوره أجواء مغلقة موصولة بالسكونية والهلاك. بيد أن استدعاء صورة الاستعارة التصريحية (طيور حيرى لا تنام ترصد الساحات قفرا من زحام) يشكل معادلا فنيا لانسان المحرق وهو يصلب على نافذة الانتظار والترقب. ولعل من الضروري أن نشير إلى أن هذا المقطع استأثر بإهتمام بعض الدارسين ومنهم الدكتور ماهر حسن فهمي الذي وقف عنده وأشار إلى أن طيور الليل إنما <<هم المسهدون الذين يحملون هموم وطنهم>>(13).

إذن فالمشهد الشعري الأخير يكاد ينصرف إلى تقصي ملامح البيئة الشعبية في المحرق وانتظارها المر لرجالها المبحرين في فضاءات الهلاك لذلك تتوحد شخصية بطلة القصة بعشرات النساء الصابرات المنتظرات. وفي مثل هذه الحالة لا يبقى لهن - ومنهم البطلة - سوى مواجهة غول الزمن الشاخص المستطيل الذي تجليه أكثر من صورة بيانية دالة. وتوشك الصورة السمعية أن تطغى على بقية الصور المستمدة من الحواس الأخرى, لأن حاسة البصر هنا لا يمكنها أن تسلي الإنسان حين يعتاد على مشهد البحر وامتداد الرمال في حين يؤدى السمع دور تكرار الحكايات الشعبية المسلية التي تبث الأمل بعودة البطل الشعبي سالما يزهو بطلته المحققة. وهنا يتداخل الحلم مع خيوط الوهم, يتناهى إلى الأسماع صوت ناي حزين يغمر الأمكنة المفتوحة (الحواري, الجهات) والأمكنة المغلقة (الحصن, الداجي) فتستجيب له المشاعر الساخنة المترعة بالعنفوان والغضارة المرموز لها بـ(قلب عذراء سجين).

وبذا يكون النص قد أفلح في أن يغدو مرآة دلالية رأينا من خلالها رؤية العين (المحرق) هذه المدينة التي قال عنها الدكتور محمد جابر الأنصاري :<< في المحرق كان يلتقي ذلك الطرب الأصيل, باللؤلؤ الأصيل, بالخير الآتي على سواعد الرجال, بقيم الأصالة في السلوك الحي, فتنبثق تلك المدينة لتصبح عاصمة التراث العابق برائحة التاريخ ومذاق الوطنية ونكهة العروبة (يوم كانت العروبة أصيلة كلؤلؤ البحرين) ويكون اسم ذلك المزيج النادر المحرق >> (14)

ولم تختم هذه القصة الشعرية بنهاية حاسمة وبأسلوب الحكاية الشعبية وهي غالبا ما تتوج رحلة البطل بالنجاح بل تركت الخاتمة لوعي القارئ وخياله يشكلان بنيتها التي تتسق مع نمو أحداثها ذات الطابع الواقعي بعد أن قالت القصيدة كل ما أرادت قوله بأسلوب قصصي ممتزج بنسيج التراث الشعبي المحبب والغائص في أعماق البيئة الشعبية لقد استطاعت (صدى الأشواق) أن تخرج تفعيلة الرمل(فاعلاتن) من مزاجها الراقص إلى استيعاب فضاءات رتابة الانتظار وربما حاكت ايقاعية القصيدة تدافع أمواج البحر باتجاه الساحل المترقب قفال العائدين.

وبعد ; فقد اتسمت مجموعة (أنين الصواري)(15) للشاعر علي عبدالله خليفة التي وردت قصيدة(صدى الأشواق) - قيد البحث- في غضونها بطابع قصصي يتمظهر لقارئ المجموعة عبر أكثر من قصيدة قصصية وعلى غرار ما شهدناه في(صدى الأشواق). وغالبا ما ترتكز القصة الشعرية على مهاد شعبي, ولا سيما إذا كانت مستوحاة من عالم الغوص وأجواء البحر ومن ذلك قصيدة على (أبواب الرحلة الأولى)(16) إذ تنعكس على وعي امرأة أيضا لكنها فقدت معيلها البحار وهي تحث ولدها على أن يحذو حذو أبيه. وترد هذه القصة الشعرية عبر نسيج من العناصر السردية المستمدة من المرجعية الشعبية التي يستثيرها البحر. وينطبق هذا على قصيدة (أنين الصوارى)(17) التي استأثرت بعنوان المجموعة إذ تتخذ هيئة قصة شعرية أيضا, وترد عبر وعي بحار عجوز يسرد حكايته مع البحر وطبيعة صلته المصيرية به. وتنحو قصيدة(من أوال الشط أحكي)(18) المنحى ذاته إذ يسردها الشاعر بضمير المتكلم ومن خلال استبطان أعماق بحار يرى أمتداد عذاباته في ولده الصغير الذي يتوق أن يكرر تجربة أبيه في حياة الغوص الشاقة(19) الأمر الذي يسم مجموعة (أنين الصوارى) بسمة هذه التجربة الشاقة, تجربة حياة الغوص التي خبرها الشاعر علي عبدالله خليفة ذاته(20) وليس أدل على ذلك من هذه الواقعية اللصيقة بطبيعة حياة الغوص وهذا التوغل في التفاصيل والجزئيات التي لا يمكن أن يصورها بمثل هذه الدقة سوى من عاشها عن كثب واكتوى بجمرها وذاق حلاوتها ومرارتها على حد سواء.

عنوان المقال الغوص وأنساقه التراثية في القصيدة الخليجية المعاصرة (أنين الصواري*) للشاعر علي عبدالله خليفة
صدر في العدد الخامس والثلاثون
الكاتب وجدان عبدالإله الصائغ

إرسال تعليق

0 تعليقات